هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

الرجل والنهر


فقط تلك الصخور هي التي تحمل سره على أكتافها منقوشة.. يعرف مواضعها.. لم تبح به لكائنات النهر. لم تعطِها الضفة أسرار الغريب لتأكلها. لم تنبس بحرف أو بأقل شيء منه، وفاءً بما له في عنقها، وقصوراً عن اللائمة لها في النوْء عن حمل أسطورته. تنتظر من يحلّ شفرتها ويسبر غورها ويراجعه شامبليون !!
يدور في فراغات عزلته في مكان متسع مفصولاً عن الزمان بين الحقيقة والحلم، مع مستحيلات العرب وأسرارهم عن الغول والعنقاء والخلّ الوفي. تاركاً كل شيء. طاوياً الأرض كأنه هارب من حبس، أو خائف من عذاب. لا ينظر إلى تلك الكائنات في عالمها.. مختفية تحت حوافّ صخور ضفة النهر وسطح الأرض، محتجبة عن الضوء.. يبتلعها جندول بعيداً عن نسائم الصيف التي تهبّ ساخنة وأشعة شمس أسوان الكثيفة الحارقة. تتناغي فيما بينها. لا تحكى عنه فهو ليس منها وليست منه. لا تعرف ما حلَّ به بجانب النهر في خلوته وإنفراده.. ووحدته !
ولا يدرى إلى أي عمق قد تصل ليختفي معها، أو ليتابعها عن كثب، أو يعترف لها بما صنع أو لم يصنع. حالة فوضى تسود وتُحيِّر الأريب بجوار النهر.. فلا يُحييها حتى بإيماءة عابرة. لا يُخالطها أو يُباسطها. يكاد ينتمي إلى عالم تلك الكائنات رغم السجايا المختلفة. هو وهى أشبه بشخصين يتشاكلان في الظاهر. يتباينان في الباطن. لا يثيره الفضول، أو يجرؤ رغم الجيرة الطويلة بجوار نهر لم تعد تعبث به عوامل التعرية القاسية. هناك حيث تأبى أسوان أن تقترب من المدن.. مبتعدة تُجافى الشمال ويُجافيها، وقد عقد الصُلح فيما مضى العقَّاد بعبقرياته..!!
بوابة مصر يحتضنها حانياً الشاطئ الشرقي عند الشلال الأول للنيل في الطرف الجنوبي. تتدفق المياه من خلال الصخور والأحجار المستديرة منتشرة. تغطيها بساتين النخيل والنباتات الاستوائية يفوح أريجها ، استواء القلوب النقيّة. تعانق سحره. لا تقاومه.. قلادة سبكتها الطبيعة بحياة بسيطة تجاور النيل محتضنة الصحراء !
هاهي قاريَّة المناخ لا تختلف صدور الطيَّبة أصحاب البشرة السمراء ذووا الوجوه الباسمة والقلوب الصافية.. الموشومين بالبشاشة، مثلما تختلف الفروق العظمى والصغرى لدرجات الحرارة. هناك حيث يقع جزء منها في كفِّ السهل الحافِّ بالنيل، ضيق الرقعة في الجنوب، يتسع شمالاً.
لم يتخذها مشتى جميلاً لطقس جاف معتدل، وشمس دافئة. هجر ضحكته.. بسمته، كما هجرت الأمطار الوادي وندرت زيارته. لم يُسقِّف حتى بسعف جاف بعض غرف المنزل المنعزل، الذي ضمَّ بقاياه، بهدوء آسر، يُخيِّم على كل مكان، على ضفته المثقلة بالأسرار والتفاصيل الكثيرة. لا تُقلِّه الزوارق التي تنساب على صفحة النيل وهو يشق رحلته نحو الشمال. لا يحرص علي القيام برحلة سِّحريِّة، أو لعلاج برمال وماء !!
زمناً طويلاً لم يره أحد يذهب إلى قنا في الشمال أو شرقا للبحر الأحمر. لم يغادر الضفة الشرقية قط. عرفوه لا يهتم بارتياد الجزء الآخر على تلال حافة الهضبة الصحراوية الشرقية الممتدة شرق أسوان وغرب النيل. لا يشغله أن يخترق عزلته أو يرتاد الربوة العالية.. البلدة القديمة، أو حتى البر الغربي.. هناك حيث غروب الشمس فوق نهر منتظر كل يوم لفجر لم يأتِ بعد.. مثلما تخترق أشعتها هنا كل شيء !
ليس غريباً أن يقطن هنا في تلك البقعة من ليس يدرى به أحد. مرات قليلة رُئىَ فيها يخرج رغم أن الرجل له موعد ثابت لا يُخلفه في الخروج يوم الجمعة مغادراً. لا يتوقّف محدثاً أحداً. 
تبدو سماته أكثر تركيزاً وقوة ودهاء وجنوحاً إلى العزلة. يَنْشِبُ قدمَيْه على الصخر الناتئ على ضفة النيل يمضى بهما على مهلٍ، لا يخطئ موضعاً يجلس فيه.. ما بين تأمل يشبه العزلة والانطوائية، ينظر طويلاً ينشد ضالة.. يبتلع النيل نظرته!!
ذلك اليوم رأوه ناظرا ً إلى السماء أخبرهم دون أن يتكلم أن السماء سوف تمطر فلم يصدقه أحد. أنهم لا يسقِّفون الغرفات. انهمرت سيولا هدَّمت منازل كثيرة!!
رأوه يوما آخر أطال النظر إلى النهر فذكر البعض أنه ربما كان ساحراً يُحضِّر الأعمال. وأنكر البعض ذلك. بل ونهروا من رماه بالسحر. فهو لا يلبس جلباباً، أو حاداً الطبع .. ولا يزوره أحد يطلب السحر!!. وفى كل مرة يخرج فيها يحتدم النقاش. يخشونه هؤلاء الذين رأوا فيه السِّحر والغموض. يحبونه أولئك الذين يدافعون عنه. يقولون انه يُلِّقى السلام عليهم  ولا يعرفهم. ولا يوجد ساحر يفعل ذلك.
على كتفِ الضفة يرسم أحلاما متدفقة تنزف بذكرياته تتلاحق على صفحة الماء .. تسابق الريح لا يلحقها هدير شلالات النهر بالنهار. ومع ذلك تغتالها شمس أسوان وتبددها فلا تسافر به إلى عوالم مجهولة تمنى لو ارتادها.. وحينما يَقتربُ الليل ويرخى سدوله يأسر مملكته فى قبضته فلا تفر منه، فباقيا وحيدا ماضيا بحزنه، يسكر بأحلامه، حتى الثمالة، يقتات من شوقه باستسلام. يولَّي وجهه أينما ذهب شطر ذكريات لا يعرفها إلا هو. ليس بشاد ليغوى النهر بالرقص معه أو ليهديه أغنية حزن تتجاوز حدود الماضي والحاضر فيعزفها له الناي على نسمات النهر. هنا كل ماحوله يسير عكس عقارب الساعة.
غريب أنْ يمر وقت طويل والحال لا يتغير. يخرج قليلاً،  يتابعون حركته إلى قبيل الظهر. موعد لا يتغير. نقاش طويل. فضولٌ يثير كثيراً من علامات الاستفهام المتناقضة. يُغَمْغِمُون بكلامٍ كثير.. لم يتلمس أحد السبيل لاكتشاف ما وراء الساكن الغريب  من سرّ ، أو يحاول اختراق عالمه الغامض.